حصاد القرية- بين جد العريفة و لهو شمسان
المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.10.2025

انتهى موسم حصاد القمح في القرية، وصفّوا أكوام الحبوب الذهبية على المساحات المشتركة حول البيدر الواسع. في الليل، كانوا يغطون الغلال بالأقمشة المتينة والبطانيات الصوفية، وعند طلوع الفجر، يكشفونها لتتعرض لأشعة الشمس الدافئة، فيشتد الحبّ ويصلُب. ومع دخول العشر الأوائل من شهر ذي الحجة المبارك، كانت الشمس تُشرق والقرية ما تزال غارقة في هدوء وسكون عميق، لا يقطعه سوى صياح الديوك النشيطة.
فكّ العريفة مصراع بابه الخشبي، وتلفّح بمشلح صوفي ثقيل، ثم أسند سُلّماً خشبياً متيناً على جدار حجري عتيق، يفصل بين منزله وبيت جاره شمسان، سائق الشاحنة الضخمة. عندما اعتلى العريفة السطح، رفع السلم بعناية فائقة ليحميه من عبث الصغار، خشية أن يسقطوه ويقطعوا عليه طريق العودة. ثم تناول درجة مخروطية الشكل، وانحرف يساراً قبل الفتحة التي تنحدر نحو ميضأة المسجد، ونقر على الباب الخشبي نقراً خفيفاً، فردّت عليه صاحبة البيت بصوت خفيض من وراء الباب. قال العريفة بصوته الجهوري: "شدّاد أبو حبلين". فارتدت المرأة شرشفاً أبيض ناصع على رأسها، وتلثمت بطرفه بخجل، ثم صاحت في زوجها بصوت عالٍ: "قُمّ؛ قُمّ؛ العريفة عند الباب". فردّ عليها الزوج بلكنته المكاويّة الواضحة: "أقوم أنقع له الدّف؟ ليحي باب العُلّيَه، لين أخبّي دلوي، واطوّي حبلي، عريفتك نقّاد".
سحبت المرأة الزرفال وفتحت الباب، وأغرقت العريفة بوابل من التراحيب الحارة. كان العريفة رجلاً لماحاً وجريئاً، فقال: "من رحّب أقرى". فردّت المرأة بابتسامة عريضة: "أبشر بالبيض المطجّن، والدخن المعجّن، واللبن المهجّن". تجرّع العريفة رشفة كبيرة من طاسة اللبن، لكن الطعم لم يرق له، فقالت المرأة موضحة: "لبن معزى وضأن". هزّ العريفة رأسه بتمعن، وقال لها: "وجهك يصطفق كنه مدهون بسنام حاشي، وإن كان إنّي ولد آبي، فأبو العراقيب بغر البارح الركيب". فابتسمت المرأة بخجل ودنّقت رأسها.
أقبل شمسان على عجل، واضعاً منشفة مبللة على رأسه، وفوطته ملفوفة حول وسطه، وخاتمه الفضّي يلمع فصّه في ضوء الشمس. وبكته رائحة المدسوس التي تفوح من علبة مزينة بقطيفة قماش. فحدّ نظره فيه بتفحص، وقال: "دريت بك يا العُرّي من يوم شفت (القرمه) مكعّشه ومنهّشه، سريت تفرث وتمعى في الناقة الجذعا". وأضاف بتهكم: "ما هي بعيدة إنك افترقت لك البارح؟". ردّ عليه العريفة بغضب مكتوم: "تراني أحشّمك يا عريفة من حشمة أمك اللي هي أخت أبويه، لا تتبلاني بشيء ما هو فيّه". فعلّق شمسان ساخراً: "أجل وش ذيك الطنقره حدّ الليل ما بتّ آويت، لكم دَبَكَة جنب رأسي كما دبكة الحمير". ليقطع عليه الردّ المفحم، طلب العريفة من زوجته أن تصبّ له فنجالاً من البراد المحروق ليبلّ به ريقه العطشان، لين ينجح فالفال. فقال شمسان متهكماً: "ما يصلح لك حلاه زيادة". فاقتبع العريفة الفنجال جغمتين كبيرتين، ومدّه لها قائلاً: "زيدي واحد". قال شمسان بسخرية: "بيسدّ نفسك عن الفال". قال العريفة: "خلّه يسدّها". وما ندر الفنجال من يده إلا بعدما ترع ثلاث ترعات متتاليات، وحاول جاهداً أن يتذكر سبب مجيئه إلى جاره، لكن المحاولة باءت بالفشل الذريع.
عاد العريفة إلى بيته، وقال لزوجته بصوت عالٍ: "هاتي الثيران خلينا نديس صيفنا حدّ النهار بأوّله". فقالت الزوجة معترضة: "العيش ما نشف خلّه يتشمّس في المسطح، ونقلّبه يومين ثلاثة، لين يذلّي يتقصمل". فلزمها العريفة من قفاتها بعنف، وقال بغضب: "والله لأنشفّه واقصمله، وإلا ماني أبو حبلين". وافتك الثيران من مربطها، ومرته منكرته، وركّب عِداد الدياس، ومن ديّسة في أختها، واختلط الحبّ بالعلّف. وما فكّ عن الثيران إلا بعدما غدّرت عليه.
حطت المعزبة عشاءه الشهي، لكنه لم يمد يده نحوه، بل انسدح على ظهره، ولمح بنظره الثاقب إلى الأعلى، وإذا به يتورّى له أن سقف البيت صاغي جهة الملّة. فانتفض فزعاً، ونقل جواليق التمر وخصفة الحبّ إلى الجهة الموازية، وعاد انشغر وإذا الميلان في الجهة الأخرى. وسرى ليلته الطويلة وهو في قلق مستمر، وما خمد إلا ضحى اليوم التالي، بعدما أرضع الحسيل الصغير، وصرم البرسيم والقصيل الطري، ولقّم الثيران الجائعة، وشقق الحطب اليابس، وخلب جدران الجرين والمصبّر بالطين والضفع. ثم اشتل الخورمة فوق كتفه العريض كأنها مشعاب، وجنّبها عند باب المراح وصعد للعالية.
رقد العريفة ثلاثة أيام متواصلة، وكلما اجتمعوا الجماعة عنده ليشاوروه في موضوع سفرهم للحج، يلقونه كما الميّت، ما تظهر لهم إلا نسمته الخافتة. وكلما جلّسوه وزهموا عليه بصوت عالٍ: "عريفة عريفة"، يردّ عليهم بصوت واهن: "عريفتكم ما هب عريفتكم"، وينكس على المسند. عمدوا شمسان غاضبين، وكالوا له اللوم والعتب الشديد، وأقسموا يميناً لو جرى على عريفتهم خلاف لتحفد من رأسه. وهو يمج السيجارة ببرود ويضحك لين تغطس عيونه البرجونيّه في محاجره، ويردد بلسان ساخر: "الله يكشف حاله". قلت يا بو حبلين ما يصلح لك الشاهي وشفط الغوري، خليه يستاهل. كان أبو حبلين واليوم صار أبو حبل واحد وبكرة أبو بتّ. والجماعة يضحكون والبعض يعيّبون عليه. والشماتين مبسوطين من الحالة اللي عريفتهم عليها.
استعاد العريفة حيويته المعهودة، وما تذكّر شيئاً مما صار عليه. وعقب صلاة العصر، لزمهم في المسيد، ونشدهم بجدية: "من اللي نوى يرافقنا نودّي شعيرة ربي، حتى نربط الوعد مع سواق اللوري، ونعطيه عربونه". وهم في أخذها واعطاها، انسحب (الفقيه) بهدوء مردداً: "ما يحج إلا قوي والا صاحب حيلة". لحقه المذّن مستنكراً، وقال: "ما عاد أقوى منك يا فقيهنا". ردّ عليه الفقيه بغضب: "ولا أَحْيَل منك يا ديكان". وتناتفو اللُّحى بعنف. فانتصب العريفة واقفاً وقال بصوت جهوري: "عليكم الله أكبر وعلى الناس الرضا". والتفت للفقيه قائلاً بحدة: "ما تتهرب من طلعة الحجّ إلا معك دنفسه يا طلحان، بتقعد تخيط وتميط وتدهن الحُلبة بالسليط". ردّ عليه الفقيه متذمراً: "بيش آحُجّ يا عريفة بقملي؟". وأضاف: "الناس قبليّة وسميّة الخريف، وكل واحد بحاجة بلاده، وشيء أبدى من شيء، بأقعد أوسّم بلادي أخرج لي". تصايحوا في الظُّلة، واللي داخل المسيد اختلفوا على الفرقة. ناس تقول: ندفع من ريال وكلّ واحد عزبته لحاله، وناس يقولون: نفرق من خمسة والعزبة جماعيّة. فقال العريفة بحكمة: "تدرون؛ منها لغيرها، منيه إلى حول الليلة لمن يعيش، تناشبنا وانحن بعد طرف الملّه، ونزيد نغدي نتناشب عند بيت الله".